فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والخنزير مخلوق لحكمة لا نعلمها نحن، وإنما يعلمها من خلق، لأنه من الجائز أن يكون أداة لالتقاط الميكروبات التي تنشأ من عفن الأشياء التي يستعملها الناس في حياتهم، إذن فكل شيء مخلوق لحكمة، فلا تخرج أنت حكمة الأشياء من غير مراد خالقها؛ لأن صانع الصنعة هو الذي يحدد الشيء الذي يوجد وينشئ القوة لها. ونحن نعلم- مثلًا- أن أنواع الوقود كثيرة، فهناك البنزين النقي جدًّا ويرقمونه برقم (1) وهو مخصص للطائرة، ووقود السيارة وهو البنزين رقم (2). فإذا استخدمنا وقود ماكينة وآلة بدل ماكينة أخرى أفسدناها. كذلك خلق الله الإنسان وسخر له كل المخلوقات وأوضح: هذا يصلح لك مباشرة، وهذا مخلوق ليخدمك خدمة غير مباشرة فدعه في مكانه.
وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى مواقف الجنة، ومواقف النار، ومواقف أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم؛ وبعد أن بين المنهج كله أراد أن يبين أن ذلك ليس نظريًا، وإنما هو واقع كوني أيضًا. ففرق بين الشيء يقال نظرا، والشيء يقع واقعًا، فقص علينا قصص الأنبياء حين أرسلهم إلى أقوامهم، فمن كذب بالرسل أخذه الله أخذ عزيز مقتدر بواقع يشهده الجميع؛ فذكر نوحا مع قومه، وذكر عادًا وأخاهم هودًا، وذكر ثمود وأخاهم صالحًا، ومدين وأخاهم شعيبًا، وقوم لوط وسيدنا لوطا.
وبين ما حدث للمؤمنين بالنجاة، وما حدث للكافرين بالعطب والإذلال، ويوضح الحق سبحانه وتعالى: أنني آخذ الناس بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون، لأن الإنسان مخلوق أفاض الله عليه من صفات جلاله، ومن صفات جماله الشيء الكثير، فالله قوي، وأعطى الإنسان من قوته. والله غني وأعطى الإنسان من غناه، والله حكيم وأعطى الإنسان من حكمته، والله عليم وأعطى الإنسان من علمه.
وإذا أردت أن تستوعب ما يقربك إلى كمال العلم في الله، فانظر ما علمه لكل خلق الله. ومع ذلك فعلمهم ناقص. ويريدون إلى العلم الذاتي في الحق سبحانه وتعالى، وربما غر الإنسان بالأسباب وهي تستجيب له، فهو يحرث ويبذر ويروي، وإذا بالأرض تعطيه أكلها. وهو يصنع الشيء فيستجيب له. كل ذلك قد يغريه بأن الأشياء استجابت لذاتيته فيذكره الله: أن أذكر من ذللها لك. {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6- 7].
وساعة ما يجد الإِنسان أن كل الأسباب مواتية له فعليه أن يذكر الله. إن الإِنسان بمجرد إرادة أن يقوم من مكانه فهو يقوم. وبمجرد إرادة أن يصفع أحدًا فهو يصفعه؛ لأن الأبعاض التي في الإِنسان خاضعة لمراده، فإذا كانت أبعاضك خاضعة لمراداتك أنت، وأنت مخلوق، فكيف لا يكون الكون كله مرادًا للحق بالإِرادة؟ فإذا استغنى الإِنسان بالأسباب، فالحق يلفته إليه. فالقادر الذي كان بفتوته يفعل. سلب الله منه القدرة بالمرض؛ فيمد يده ليساعده إنسان على القيام والذي اعتز بشيء يذله الله بأشياء. لماذا؟ حتى يلفته إلى المسبِّب، فلا يُفتن بالأسباب.
ويدع لنا الحق سبحانه وتعالى في كونه عجائب، ونجد العالم وقد تقدم الآن تقدمًا فضائيًّا واسعًا، واستطاع الإِنسان أن يكتشف من أسرار كون الله ما شاء، ولكن الحق يصنع لهم أحيانًا أشياء تدلهم على أنهم لا يزالون عاجزين. فبعد أن تكتمل لهم صناعة الآلات المتقدمة يكتشفون خطأ واحدًا يفسد الآلة ويحطمها، وتهب زوبعة أو إعصار يدمر كل شيء، أو يشتعل حريق هائل. فهل يريد الله بكونه فسادًا وقد خلقه بالصلاح؟ لا، إنه يريد أن يلفتنا إلى ألا نغتر بما أوتينا من أسباب. فالذين عملوا الرادار لكي يبين لهم الحدث قبل أن يقع، يفاجئهم ربنا- أحيانًا- بأشياء تعطل عمل الرادار، فيعرفون أنهم ما زالوا ناقصي علم.
إذن فالأخذ بالبأساء، والأخذ بالضراء، سنة كونية الإِنسان فاهمًا وعالمًا أنه خليفة في الأرض لله. وفساد الإِنسان أن يعلم أنه أصيل في الكون، فلو كنت أصيلًا في الكون فحافظ على نفسك في الكون ولا تفارقه بالموت.
وإن كنت أصيلًا في الكون فذلل الكون لمراداتك. ولن تستطيع؛ لأن هناك طبائع في الكون تتمرد عليك، ولا تقدر عليها أبدًا.
وترى أكثر من مفاعل ذري ينفجر بعد إحكامه وضبطه لماذا؟! ليدل على طلاقة القدرة وأن يد الله فوق أيديهم، إذن فأخذ الناس بالبأساء والضراء، وبالشيء الذي نقول إنه شر إنما هو طلب اعتدال للإِنسان الخليفة، حتى إذا اغتر يرده الله سبحانه وتعالى من الأسباب إلى المسبِّب. وحين يأخذ الله قومًا بالبأساء التي تصيب الإِنسان في غير ذاته: مال يضيع، ولد يفقد، بيت يهدم، أو يأخذهم بالضراء وهي الأشياء التي تصيب الإِنسان في ذاته، فلذلك ليسلب منهم أبهة الكبرياء، فلا يجدون ملجأ إلا أن يخضعوا لرب الأرض والسماء، ولكي يتضرعوا إلى الله، ومعنى التضرع- كما عرفنا- إظهار الذلة لله. وإذا لم يُجْدِ وينفع فيهم هذا، وقالوا: لا، إن البأساء والضراء مجرد سنن كونية، وقد تأتي للناس في أي زمان أو مكان. نقول لهم: صحيح البأساء والضراء سنن كونية من مكوّن أعلى من الكون، فإذا لم يرتدعوا بالبأساء والضراء ويرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه يبتليهم الله بالنعماء، فهو القائل: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
فالمجتمعات حين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقامًا يناسب جرمهم، ولو أنه أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربة قوية؛ لذلك يوسع عليهم في كل شيء حتى إذا ما سلب منهم وأخذهم بغتة وفجأة تكون الضربة قوية قاصمة ويصيبهم اليأس والحسرة.
وقديمًا قلنا تعبيرًا ريفيًّا هو: إن الإِنسان إن أراد أن يوقع بآخر لا يوقعه من على حصيرة، إنما يوقعه من مكان عال. وربنا يعطي للمنكرين الكثير ويمدهم في طغيانهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقد دلت وقائع الحياة على هذا، ورأينا أكثر من ظالم وجبار في الأرض والحق يملي له في العلو ويمد له في هذه الأسباب ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ولو بواسطة حارسه. {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة حتى عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضراء والسراء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95].
وقد يضبط الإِنسان أشياء تُعْلمه بواقع الشر في مستقبله. مثلها مثل الرادار الذي يكشف لنا أي خطر في الأفق قبل أن يأتي، وحين يقول سبحانه: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي ليس عندهم حساب ولا مقاييس تدلهم على أن شرًّا يحيق بهم.
وأنت لو نظرت إلى هذه المسألة لوجدت الإِنسان بعقله وفكره الذي لم يسلك فيه طريق الله بل سلك فيه السبيل غير الممنهج بمنهج الله، وبينما لا يلتفت الانسان إلى مجيء الكارثة، ويتساءل: لماذا تجري هذه الحيوانات؟! إنه في هذه الحالة يكون أقل من الحيوانات؛ لأن الحيوان من واقع الأحداث في بلد تحدث فيه الزلازل يكون أول خارج من منطقة الزلزال، إنَّ الله قد سلبه هذه المعرفة حتى تتمكن منه الضربة، إننا نجد الحمار يجري ليغادر مكان الزلزال، بينما يظل الإِنسان واقفًا حتى يحيق ويحيط به الخطر، فأي إحساس وأي استشعار عند الحيوان؟ إنه استشعار غريزي خلقه ربه فيه؛ لأنه سلب منه التعقل فأعطاه حكمة الغرائز.
وما دام الحق قد نبه الإِنسان بالبأساء فلم يلتفت، وبالضراء فلم ينتبه إلى المنهج؛ لذلك يأتي له الحق ويمد له بالطغيان.
لكن أهل الإِيمان أمرهم يختلف، فيقول سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...}. اهـ.

.التفسير المأثور:

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)}.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة} قال: مكان الشدة الرخاء {حتى عفوا} قال: كثروا وكثرت أموالهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {ثم بدلنا مكان السيئة} قال: الشر {الحسنة} قال: الرخاء والعدل والولد {حتى عفوا} يقول: حتى كثرت أموالهم وأولاهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {حتى عفوا} قال: جمعوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء} قال: قالوا قد آتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئًا {فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} قال: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكوتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ}.
في {مكان} وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ مفعول به لا ظَرْف، والمعنى: بَدَّلْنَا مكان الحال السَّيِّئَةِ الحال الحسنة، فالحسنةُ هي المأخوذة الحاصلةُ ومكان السيِّئةِ هو المتروك الذَّاهِبُ، وهو الذي تصحبه الباء في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره: بدَّلْتُ زيدًا بِعَمْروٍ، فزيدٌ هو المأخوذ، وعمرو المتروكُ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا في البَقَرَةِ في موضعين:
أولهما: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 59].
والثاني: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} [البقرة: 211].
ف {مَكَانَ} و{الحَسنَة} مفعولان إلاَّ أن أحدهُما وصل إليه الفعل بِنَفْسِهِ وهو {الحَسَنَةُ}، والآخر بحذف حرف الجرِّ وهو {مكان}.
والثاني: أنَّهُ مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِ، والتَّقديرُ: ثمَّ بَدَّلْنَا في مكان السَّيِّئَةِ الحسنةِ إلا أنَّ هذا ينبغي أن يُردَّ؛ لأن {بدَّل} لابد له من مفعولين أحَدُهَمَا على إسقاط الباءِ.
والمراد بالحَسَنَةِ والسيِّئَةِ هاهنا: الشِّدَّةُ والرَّخَاءُ.
قال أهل اللُّغَةِ: السَّيِّئَةُ: كلُّ ما يَسُوءُ صَاحِبَهُ، والحسنَةُ: كل ما اسْتَحسَنَهُ الطَّبْعُ والعَقْلُ.
قوله: {حَتَّى عَفَوا} {حتَّى} هنا غائيةٌ، وتقدير مَنْ قدّرها بإلَى فإنَّمَا يريدُ تَفْسِيرَ المعنى لا الإعرابَ؛ لأن حتَّى الجارَّة لا تُبَاشِرُ إلاَّ المضارع المنصوب بإضمار أنْ؛ لأنها في التَّقْديرِ داخلة على المصدر المُنْسَبِك منها، ومن الفعل، وأمّا الماضي فلا يطَّرِدُ حذف أنْ معه، فلا يقدّر معه أنَّها حرف جرٍّ داخلة على أن المصدريَّة، أي: حتَّى أن عفوا، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاءِ: حتَّى عَفَوْا أي: إلى أن عفوا.
ومعنى {عَفَوا} هنا كَثُروا من عَفَا الشعْر إذا كَثُر، ومنه: «وأعْفُوا اللِّحَى» يُقَالُ: عَفَاه، وأعْفَاه ثلاثيًا ورباعيًّا؛ قال زهيرٌ: [الوافر]
أذَلِكَ أمْ أقَبُّ البَطْنِ جَأبٌ ** عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عَفِاءُ

وفي الحديث: «إذَا عَفَا الوَبَرُ وبَرَأ الدُّبُرُ فَقَدْ حضلَّت العُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ»؛ وأنشد الزَّمَخْشريُّ على ذلك قولَ الحُطَيْئَةِ: [الطويل]
بِمُسْتأسِدِ القُرْبَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ

وقول لَبِيد: [الوافر]
ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ** بأسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ

وتقدَّم تحقيقُ هذه المادّة في البقرة.
قوله: {فَأخَذْنَاهُمْ}.
قال أبُو البقاءِ: هو عطفٌ على {عَفَوْا}.
يريدُ: وما عطف عليه أيضًا، أعني أنَّ الأخذ ليس متسببًا عن الَفَاءِ فقط، بل عليه وعلى قولهم تلك المَقَالةِ الجاهليَّةِ؛ لأنَّ المعنى ليس أنَّهُ لمُجرَّدِ كثْرَتِهِمْ، ونموِّ أموالِهِمْ أخذهم بغتة بل بمجموع الأمْرَيْنِ، بل الظَّاهِرُ أنَّهُ بقولهم ذلك فقط.
و{بَغْتَةً} إمَّا حالًا أو مَصْدرًا، والبَغْتَةُ الفُجَاءَة، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حال أيضًا وهي في قوَّةِ المُؤكِّدَةِ؛ لأنَّ {بَغْتَةً} تفيدُ إفادتها، سواء أعْرَبْنَا {بغتة} حالًا أم مَصْدرًا.
واعلم أنَّ الحكمة في حكاية هذا المعنى ليعتبر من سمع هذه القصَّة. اهـ. باختصار.